أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
يُخلص إلى التمام
«يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ»(عب7: 25)

يُخبرنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين في أصحاح 9: 24-28 عن ثلاثة ظهورات للرب يسوع المسيح: ظهوره في الماضي، وظهوره في الحاضر، وظهوره في المستقبل.  فعن ظهوره في الماضي قال الرسول: «قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ» (ع26).  وهو «يَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا» (ع24)، وفي يوم قريب «سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ» (ع28).
هذه الظهورات الثلاثة تُلخِّص لنا عمل الرب يسوع في الماضي والحاضر والمستقبل؛ أو بكلمات أخرى: هي تكلّمنا عن الخلاص في مراحله الثلاث.

وكم نسجد لشخصه المجيد لأجل هذه الظهورات المجيدة، فكم كنّا بحاجه شديدة إلى ظهوره في مجيئه الأول!  وكم نحتاج لخدمته الكهنوتية في الوقت الحاضر!  وكم نشتاق ونَتوق إلى ظهور مجيئه في يوم قريب!

بعدما صنع الرب يسوع بنفسه تطهيرًا للخطايا وجلس في يمين العظمة في الأعالي «خَادِمًا لِلأَقْدَاسِ وَالْمَسْكَنِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ» (عب8: 2)، هو الآن يخدمنا خدمات جليلة متنوعة، ولا يستطيع قديسوه الاستغناء عن هذه الخدمات الجليلة: خدمته الكهنوتية، وخدمته الشفاعية، وخدمته الراعوية، وخدمة الإنعاش وغسل الأرجل. 

وخدمة المسيح الكهنوتية مرتبطة بالضعفات التي تظهر من شعب الرب، وتضمن للساجدين قبولاً لسجودهم رغم ما يشوبه من نقص.  والضعفات ليست هي الخطايا، بل هي النتائج غير الخاطئة للخطية، من مخاوف وأحزان وآلام وضيقات.  ورئيس الكهنة العظيم متخصِّص في هذه الأمور الثلاثة التي تلخِّص كلمة “الضعفات”.  وهو - تبارك اسمه - خبير في أحزان الحياة (إش53: 3؛ عب4: 15)، ويعلم تمامًا هشاشة أوانينا وضعفها، وعنده الخبرة والحكمة في التعامل مع الحرمان، لأنه إله التعويضات.

وهذه الخدمة الكهنوتية تتضمن معونة ثلاثية لرئيس الكهنة العظيم بالارتباط بضعفاتنا في الطريق:

1. «يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عب2: 18).

2. «قَادِرٌ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا» (عب4: 15).

3. «يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ» (عب7: 25).

ويُمكننا أن نجد صورة وظلاً لهذه المعونات الثلاث في خروج 28؛ فقد كانت أسماء بني إسرائيل منقوشة على حجري جزع، وموضوعة على كتفي رئيس الكهنة.  وبهذا كان هارون رئيس الكهنة يحمل تلك الأسماء على كتفيه أمام الرب.  والكتف هو مكان القوة (إش9: 6؛ لو15: 5).  فكون هارون يحمل أسماء بني إسرائيل على كتفيه فهذا يُذكرنا بالمعونة الأولى: «يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عب2: 18). 

ثم كان هارون يحمل أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر على صُدرة القضاء، ومكانها على صدر رئيس الكهنة.  وقد وردت كلمة “الصُدرة” في خروج 28 عشر مرات، ورقم عشرة هو رقم المسؤولية؛ فالرب يسوع هو المسؤول عن سلامة قديسيه وأمنهم.  كما ذكرت كلمة “القلب” ثلاث مرات، ورقم 3 هو رقم القيامة؛ أي أن المؤمنين على قلب المسيح المٌقام في المجد أمام الله وهذا يذكرنا بالمعونة الثانية «قَادِرٌ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا» (عب4: 15).
أما المعونة الثالثة لرئيس الكهنة العظيم «يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ» (عب7: 25)، فنستطيع أن نراها في “الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ” «وَتَجْعَلُ فِي صُدْرَةِ الْقَضَاءِ الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ لِتَكُونَ عَلَى قَلْبِ هَارُونَ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ الرَّبِّ.  فَيَحْمِلُ هَارُونُ قَضَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَلْبِهِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا» (خر28: 30).  وكلمة “قَضَاء” لا تعني هنا “الحكم والعدل” بل “التمييز والإرشاد” (Discernment).  وكلمة “الأُورِيمَ” تعني “الأنوار”، و“التُّمِّيمَ” تعني “الكمالات”.  وهذه ذُكرت في الكتاب سبع مرات (خر28: 30؛ لا8: 8؛ عد27: 21؛ تث33: 8؛ 1صم28: 6؛ عز2: 63؛ نح7: 65).  وواضح أنه في أيام الشدة والارتباك كان رئيس الكهنة يسأل بعض الأسئلة، وكان الله يُعطي الجواب للإرشاد عن طريق “الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ”، ولحكمةٍ، لم تُعطَ لنا تفاصيل عن كيفية إجابة الرب.

ويا له من امتياز جميل لشعب الرب قديمًا أن يُسترشد بفكر الرب، ويعرف مشيئته عن طريق الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ.  ولكننا في تدبير نعمة الله العجيب، لنا امتياز أروع من قديسي العهد القديم.  فالأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ كانا على صدر رئيس الكهنة في مكان محدد وهو الأقداس (خر28: 30).  وبالتالي لم يكن من اليسير على كل شعب الرب الالتقاء برئيس الكهنة في أورشليم.  ولذا كان السؤال يقتصر على المسائل الجوهرية للشعب، أما الآن فلنا أن نسأل الرب من جهة كل مسائلنا، ونفهم مشيئة الرب من جهتنا في كل شيء (أف5: 15-17).  
وتعبير «يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ» أي إلى نهاية المشوار، وعلى طول الخط إلى نهاية الرحلة.  أو نستطيع أن نفهمها أن له القدرة للخلاص الحاضر من كل أنواع الضيقات والمشاكل والعُقد التي لا حل لها عند البشر.  فإن كان قد تمَّم الخلاص العظيم في الماضي، وأنجز المأمورية الأصعب؛ عمل الكفارة العظيم، فهل تصعب عليه متاعب الحياة؟ «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ!» (رو5: 10).

إن رئيس الكهنة العظيم هو وحده الكُفء والقادر على صعوبات ومنغِّصات الحياة، وعنده دائمًا الباب المتاح عندما توصد أمامنا كل الأبواب، وعندما تُستحكم حلقاتها، وتضيق بنا الحياة، ونشعر بالحيرة والارتباك، ولا نعلم ماذا نفعل، وكيف نتصرف، وعندما لا نجد المُشير الحكيم، ولا صاحب الرأي السديد.  ولكننا في وسط هذه الحيرة الشديدة لنا الشخص المجيد الذي «يُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا» (إش9: 6)، الذي قال: «لِي الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ.  أَنَا الْفَهْمُ.  لِي الْقُدْرَةُ» (أم8: 14).  ففي وقت الحيرة والوقوف أمام مفترق الطرق إلى مَن نذهب لنأخذ الرأي والمشورة إلا إلى الشخص المجيد الذي قِيل عنه «عَظِيمٌ فِي الْمَشُورَةِ، وَقَادِرٌ فِي الْعَمَلِ» (إر32: 19)، صاحب المشورة الحكيمة التي لا تخطئ أبدًا «فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ أَفْكَارٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ مَشُورَةُ الرَّبِّ هِيَ تَثْبُتُ» (أم19: 21). 

والرب يُشجعنا أن ندعوه ونستشيره في كل تفاصيل حياتنا «اُدْعُنِي فَأُجِيبَكَ وَأُخْبِرَكَ بِعَظَائِمَ وَعَوَائِصَ (أشياء غامضة) لَمْ تَعْرِفْهَا» (إر33: 3؛ قارن من فضلك 1ملوك10: 1-3).  لا أقصد أننا سنعرف كل الأمور الغامضة والمعقدة في حياتنا.  فالرب في حكمته يعلن لنا أمورًا ويخفي البعض الآخر ليوم قادم فيه سنعرف كل ما عسر علينا فهمه في الزمان الحاضر فقد قال موسى قديمًا: «السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، وَالمُعْلنَاتُ لنَا» (تث29: 29).  ولكن علينا أن ننتظر أمامه ليعلن لنا فكره ومشيئته الصالحة، ونفرح بما أعلن لنا.

لقد تميَّز داود بأنه كان معتادًا في كل أموره أن يستشير الرب، ويبحث عن مشيئته، ويسترشد برأيه وفكره.  فهناك على الأقل 7 مناسبات نجد فيها حرص داود على معرفة فكر الرب قبل أن يتَّخذ أي قرار (1صم23: 2، 4، 9؛ 30: 7؛ 2صم2: 1؛ 6: 19، 23).  وكم يفرح الرب إلهنا بأن نستشيره دائمًا!  وما أخطر أن نسير في حياتنا بالانفصال عن رأيه ومشورته!  فالنتائج وقتئذ ستكون لها آثار سلبية على حياتنا الروحية (يش9: 14).

وما أخطر أن نتظاهر بأننا ننتظر الرب ومشورته ونكون في أعماقنا غير مستعدين للعمل بمشورته ورأيه إن أعلن الرب فكره.  وأوضح مثال على هذا هو الملك شاول بن قيس والتي اتسمت كل تصرفاته بالجسدانية، فقد استدعى مرة أَخِيَّا الكاهن الذي معه الأفود ليسأل به الرب، دون انتظار حقيقي وخضوع لفكر الرب، لأنه قبل أن يُعلن الرب فكره قال شاول لأَخِيَّا الكاهن: «كُفَّ يَدَكَ» (1صم14: 18، 19).  لقد كان يتظاهر أنه يطلب فكر الرب، ولكن في الواقع ما كان أبعده عن هذا التوجه المبارك، ولذلك عندما احتاج فعلاً لمشورة الرب في أحرج لحظات عمره، وقت حربه مع الفلسطينيين، يقول الكتاب: «فَسَأَلَ شَاوُلُ مِنَ الرَّبِّ، فَلَمْ يُجِبْهُ الرَّبُّ لاَ بِالأَحْلاَمِ وَلاَ بِالأُورِيمِ وَلاَ بِالأَنْبِيَاءِ» (1صم28: 5، 6).  كان الرب قد سبق وأعلن له فِكره كثيرًا، ولكنه لم يسلك أبدًا بحسب فكر الرب، بل كان يسلك دائمًا بحسب عناد قلبه الرديء، ولذلك لم يَنَل الإجابة من الرب في وقت شدته.

أخي العزيز المتألم.. ما أحلى أن تدرِّب نفسك على انتظار الرب، ومشورته في أوقات الوسع، حتى عندما تأتي أوقات الحيرة والاضطراب، وعندما تكون في مفترق الطرق، وعندما تبدو الطرق متشابكة والخيوط معقَّدة، يمكنك أن تستمتع بإرشاده.  إن رئيس الكهنة «يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ إِلَى التَّمَامِ»، وهو كافٍ جدًا ليجيبك عن كل حيرتك وتساؤلاتك، فهو بحق كاشف الأسرار الخبير في كشف الألغاز وحل العقد.  فما أعظمه! وما أجوده!

عادل راجح