أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
صداحة وفواحة
«وسمَّى اسم الأولى يميمةَ واسم الثانيةِ قَصيعَةَ واسم الثالثةِ قرنَ هفُّوكَ» (أي14:42)

أَيُشرِقُ صباحٌ صحوٌ مضيءٌ غِبَّ المَطرِ؟ 
أَيَصدُرُ لحنٌ رخيمٌ عن قيثارةٍ انتُزِعَ عنها آخِرُ وَتر؟
أَهي موجاتٌ مُقنَّنةٌ مِن الأَلم سَمَحت بها السماءُ أم هو عَبَثُ القَدَرِ؟  
ألا يلوح محيا مفتدي البشر، فللقلبِ في محياه غَايةُ الوَطَرِ؟

  في مشهدٍ أليمٍ عارِمِ الفزَعِ، توالت فيه المصائبُ وتزامنت، أعلَنَ أيوبُ فشلاً ودمارًا حاضرًا ومستقبلاً، فأخَذَ يُعبِّرُ في فصاحةٍ وتسلسلٍ، لا عن يوم جنازتِهِ فحسب، فلقد تخطاه، مسرعةً خطاه، راجيًا الهاويةَ مبتغاه، داعيًا القبرَ أباه، ومناشِدًا الدودَ “أُماه”، بل وحاسبًا الترابَ مُنتهاه: «إذا رَجَوتُ الهاويةَ بيتًا لي، وفي الظلام مَهَّدتُ فراشي، وقلتُ للقبرِ أنت أبي، وللدود أنت أمي وأختي.  فأين إذًا آمالي؟  آمالي من يُعاينها؟  تهْبُط إلى مغاليقِ الهاويةِ إذ ترتاحُ معًا في الترابِ» (أي17: 13-16).

ولقد شَعَرَ المسكين وكأنَّ الدودَ قد أَلفَّ بجسدِهِ وكأنَّهُ قد دُفِنَ حيًّا، فاستنشَقَ رائحةَ القبرِ مع مَدَرِهِ: «لبس لحمي الدود مع مَدَرِ التراب» (أي7: 5).  والمَدَر هو ما اختلط من الترابِ بالماء فتَلَكَّدَ.  فلم يَعُد يتوقعُ لقبسٍٍ من النورِ لعينيه أن يَتَسرَّبَ، فخاطَبَ الربَّ: «اذكر أن حياتي إنما هي ريحٌ وعيني لا تعودُ ترى خيرًا» (أي7: 7).

صديقي المتألم، يا مَن تؤكد أن الرجاءَ قد قُتِلَ، يا مَن تظنَ كأيوبَ أن الخيرَ لا يمكن أن يعودَ فيتراءى لعينيكَ، إن كتابَ اللهِ في الآيةِ المذكورةِ أعلاه، يعلِّمنا أن الربَّ:

يُنصِفُهُم بسرعةٍ يُجدِدُ الآمال         أكثَرَ مما نفتكِرُ أو يخطُرُ بالبال


  أَيُعقلُ أن مَن اُثكِلت بعشرةٍ، تُنجِبُ عَشرةً، فيمتلئُ البيتُ صدْحًا وفوْحًا وراحةً؟  
إن كلمة “يميمة” تُعني كما ننطقها بالعربيةِ: “يمامة”، وهى كنايةٌ عن الصدْحِ والغناء، و“قصيعة” تعني: “ريحانة” وتُكني عن عبيرٍ ورائحةٍ ذكيةٍ فيحاء، وأما “قرن هَفُّوك” فمعناها: “قرن الأثمِد” وتُصوِّر جمالَ الطليعةِ، لمن عاد الجمالُ لعينيها بعد تقرُّحٍ مِن كثرةِ البكاء.
 
ألم تُجمَع هذه المعاني الجميلة معًا في منظومةٍ برَّاقةٍ في آياتٍ متسلسلةٍ: «قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي.  لأن الشتاءَ قد مضى والمطر مرَّ وزال، الزهور ظهرَت في الأرض، بَلَغَ أوانُ القضب، وصوتُ اليمامةِ (يميمة) سُمِعَ في أرضِنا.  التينة أخرَجت فجَّها، وقُعالُ الكرومِ تفيحُ رائحتها (قصيعة) .... أريني وجهَكِ، أسمعيني صوتكِ، لأنَ صوتَكِ لطيفٌ ووجهَكِ جميلٌ (قرن هفُّوك)»؟ (نش2: 10-14)

  لقد تَبَدَّلت الجنازةُ حاميةُ الوطيس، إلى روضةٍ غنَّاء بل إلى مشهدٍ نابضٍ بتعويضات السماء!

بطرس نبيل