أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
الآم التأديب
الكلمة اليونانية التي تتُرجم “التأديب” مشتقة من كلمة تعني “المعلِّم” أو “المُربي” وتُستخدم بثلاثة معانٍ وهي:
“يُعلِّم”: وهي متضمَّنة فيما ورد عن بولس «رَبَيْتُ ...  مُؤَدَّبًا عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ» (أع22: 3)، وعن النعمة «مُعَلِّمَةً إِيَّانَا» (تي2: 12)، وأخيرًا لتيموثاوس «مُؤَدِّبًا بِالْوَدَاعَةِ الْمُقَاوِمِينَ» (2تي2: 25).  
 “يُصحّح” ويستحضر سفر الأمثال هذا المعنى «يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ» (أم3: 11)، وتعني ليس فقط التعليم والتأديب، بل أيضًا التصحيح واستخدام العصا مع ما في ذلك من ألم وصعوبة «اَلْعَصَا وَالتَّوْبِيخُ يُعْطِيَانِ حِكْمَةً» (أم29: 15). 

“يعاقب” «إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا، نُؤَدَّبُ مِنَ الرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ الْعَالَمِ» (1كو11: 32) وهذا عندما يكون هناك شر خطير لم يُعترف به ويُحكم على مسبباته.

 وسنوجز الكلام عن التأديب الأبوي في النقاط التالية:

1) التأديب برهان على أننا أبناء محبوبون

لا يوجد أب لا يؤدِّب أبناءَه «فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟» (عب12: 7)، وﺇلا فإننا سننسب لهذا الأب عدم الأهليّة للقيام بمسؤولياته في استخدام السلطان الأبوي الذي منحه الله له ، ألا وهو تدريب وتعليم وتصحيح الأبناء!!  من هنا نستطيع أن نستخلص أن الله أبانا عندما يقوم بتأديبنا فإنه يُظهر مُقتضيات الأبوة من نحونا، هذا مِن جهة الله كأب.  أما من جهتنا نحن، فقبولنا للتأديب إقرار واعتراف منا بأننا أبناؤه «إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ» (عب12: 8). 

والتأديب الأبوي يصل بنا إلى اللياقة الروحية المطلوبة، ويُعالج ما فينا من الميول الرديئة والرغبات الشريرة والجنوح لفعل ﺇرادتنا الذاتية.  لذلك فنحن نحتاج إلى هذه التدريبات الإلهية لكي تسمو حياتنا وترتقي بحسب فكر الله. 

2) مفارقات بين تأديب الآب لنا وتأديب الآباء الجسديين

يقول كاتب العبرانيين: «قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ.  أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟» (عب12: 9).  وهذا التأديب كان «حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ» (ع10)، الذي يشوبه الكثير من النقص تمامًا مثل من يقوم به؛ أما الله أبونا فهو يتصف بالكمال، وكذا تأديبه لنا.  إن آباءنا الأرضيين أدَّبونا «أَيَّامًا قَلِيلَةً» (ع10)، من سن الطفولة إلى سن البلوغ وتحمُّل المسؤولية، أما مدة التأديب الإلهي فإنها تشمل الحياة كلها منذ أن عرفنا المسيح كمخلِّصنا وحتى نهاية الحياة.  وتحديد جرعات التدريب والتأديب وكذلك مدته هي في سلطان الآب الحكيم، لذا يقول الرسول “وَأَمَّا أَخِيرًا” (ع11)، وهو الوقت الذي يراه الله مناسبًا لانتهاء هذا التدريب، إذ يظهر ثمر هذا التدريب. 

وبولس بالوحي يقول: إننا كنا نهاب الآباء الجسديين، بالرغم من نقائصهم (ع9)، فكيف لا نهاب الآب في معاملاته معنا؛ وكأنه بلغة عتاب الرب مع الشعب القديم يقول: «الاِبْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ.  فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟  وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟» (ملا1: 6).

3) الهدف من التأديب


إن الغرض الإلهي من التأديب في أوجهه المتعددة يتجه نحو غرض واحد وهو: “لأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ”؛ لأن قلب أبينا المُحبّ يُريد خيرنا وبركة نفوسنا.  وأعظم الفوائد التي نجتنيها من خلال هذه التأديبات فهي «لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ» (عب12: 10). 

4) وسائل ومجالات التأديب


أكثر وسائل التأديب أهمية وتأثيرًا هي: أولاً: كلمة الله «كُلُّ الْكِتَابِ ...  نَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ» (2تي3: 16).  وثانيًا: تجارب الحياة وظروفها المتنوعة، والتي من خلالها نتعلَّم الكثير، وينمو الإيمان وتتعمق الثقة بالرب في شتى مجالات الحياة (يع1: 2-4). 

والرب يستخدم الآلام لتهذيبنا، لا لأنه يُسَرّ بآلامنا، بل لأنها أنجح الوسائل مع طبيعتنا؛ فعن طريقها يكون عندنا الحس المرهف لسماع صوت الرب (يع1: 19)، وعن طريقها يكون لنا النظرة المُتعقِّلة للطموحات الأرضية، فنتجرد من كل ما يأخذ طاقاتنا الروحية، ونستفيق من زيف وخداع الحياة، ومن ثم يصل بنا الرب لغرضه معنا.

5) واجبنا إزاء التأديب


أ. الخضوع: فبما أننا كنا نهاب آباءنا في الجسد، فبالأولى يجب أن نخضع لله ونهابه كأبينا لأنه أبو الأرواح (عب12: 9).  فهو الذي ولدنا ثانية ومنحنا حياة جديدة فأصبح له أحقية تأديبنا باعتبارنا أولاده. 

ب. عدم احتقار التأديب: «يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ» (ع5).  يجب علينا كأبناء ألا نستخف بالتأديب أو نتجاهله أو نرفضه، ولا نعتبر الظروف التي نمر بها عارضة تصيب الكل، لكي نتعلم دروسًا منها.
 
ج. عدم الخوار:
«يَا ابْنِي ...  لاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ» (ع5)، فهو أبونا المُحبّ، ويجب أن نتصف بالقوة والرجولة الروحية التي تُمكّننا من الاحتمال؛ حتى لا نُصاب باليأس والانهيار، بل يستمر المؤمن في جهاده ومثابرته للاستمرار في الحياة الروحية النامية.

6) مفارقات بين آلام التأديب وآلام الحصاد

آلام التأديب تختلف عن آلام الحصاد الذي هو نتيجة لزرع زرعناه؛ فآلام الحصاد نحن السبب في اجتيازها كنتيجة طبيعية حسب المبدأ «فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا» (غل6: 7).  والمؤمن لا ينبغي أن يلوم الرب بسبب هذه الآلام، فسقوطه في الخطية كان السبب المباشر لها.  أما آلام التأديب فهي آلام بها يصقل الرب شخصياتنا، ويخلق فينا ما هو ليس فينا أصلاً من صفات روحية ونضج، وبها يَعْبُر الرب بنا من حالة الطفولة الروحية إلى حالة الرجولة.  بآلام التأديب يصنع منا الرب رجالاً قادرين على تحمُّل الشدائد والصعوبات، والطبيعة نفسها تُعلِّمنا أن الأولاد الذين تعرَّضوا لمعاملات تتسم بالحزم من قِبل والديهم هم الذين صاروا أكثر نفعًا لوالديهم ولأنفسهم وللرب وللآخرين عن الذين اتسمت معاملات والديهم معهم بالليونة (1مل1: 6).

نذكر هذا لأنه مما يزيد آلام المؤمن المُجرَّب أن البعض ينسب ما يمر به لزرع زرعه، وهذا ما قاله أصحاب أيوب له ليُفسِّروا سبب بلاياه (أي4: 8؛ 8: 11؛ 11: 13-15).  والمؤمن نفسه عُرضة لهذا الفكر، حتى إنه يبدأ في مراجعة سجل حياته ليجد سببًا مباشرًا لما يمرّ به.  لكن علينا أن نعلم أنه من الممكن أن نتألم لا لسبب فينا، بل لسبب عنده.

7) نتائج التأديب

مما لا شك فيه أنه لا يوجد تأديب بلا فائدة.  قال الرسول عن التأديب: «أَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب12: 11).  والكلمة “أَمَّا أَخِيرًا” تترك لدينا انطباعًا أن الدرس قد انتهى، لأن الثمر قد ظهر، ولكن الحقيقة أن التأديب لا ينتهي، ولكن هذه الحقبة من التدريب انتهت. 

ليتنا نثق في محبة الله أبينا وحكمته وصلاحه المطلق من وراء ما تسمح به يده لنا، فهو لخيرنا، فلنصبر له وننتظره ونحتمل معاملاته التأديبية.

أنور داود