أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
الشكر فى التجارب جروح أطايبها تفوح
«اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ
فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ» (1تس5: 18)


هل يمكن لقلب جريح، ينزف ألمًا، أن يفيض منه شكر خالص وأصيل؟!

هل يمكن أن ينظر إنسان إلى السماء وعيناه تمتلئان بالدموع والامتنان في آن واحد؟!

هل يمكن لإنسان أن يُبارك الرب بملء الفم ويحمده بنفس راغبة وهو لم يزل في قلب التجربة؟!


هذه معادلة صعبة بمنطق البشر..

إنها - وفقًا للمنطق البشري - غير ممكنة، بل تُعدّ غريبةً على طبيعة الإنسان.  المفهوم السائد بين البشر أن المرء يشكر حين يُسدَى له معروف، أو حين ينال شيئًا التمسه أو تمناه.  إن رأينا البعض يشكرون الله لأنه غمرهم بالعطايا والخيرات، ومنع عنهم شرورًا وأضرارًا، فلا نستغرب أبدًا.  كما لا نتعجب أيضًا عندما تخرج زفرات الأنين وعبارات التذمر وكلمات اللوم والعتاب الشديد في أوقات البلايا والأزمات.

الأمر العجيب، الذي يسمو فوق ما هو طبيعي، ما نراه في حياة مؤمنين، يجتازون في دروب الألم الضيقة، وهم شاكرون في كل شيء.  نلتقي ببعضهم على صفحات أسفار الوحي، أو في معرض حياتنا الحاضرة.  نجد رجالاً أمناء ونساء فاضلات يشبهون أشجار البلسان الذي حين يُجرح يسيل منه المر القاطر ذو الرائحة العطرة، وبقدر ما تكون التجربة أكثر ألمًا، بقدر ما تفوح منهم أطياب الحمد للرب.

منشأ الشكر في التجارب

أعلم أن هذا الأمر ليس سهلاً وغير شائع، ولا يختبره كل المؤمنين.  إن أردنا أن نعرف دواعي الشكر وسط الضيق، سنكتشف أن السبب يكمن في أنهم رفعوا أنظارهم إلى فوق وقادهم الرب أن يعرفوا أكثر - لا عن تفاصيل التجربة أو ملابساتها المُعقَّدة - بل عن شخص الرب نفسه.  إن حمدهم، ليس من أجل الضيقة في حد ذاتها بالطبع، بل نتيجة فتح عيونهم على طبيعة الله وصفاته ومقاصده.

أدعوك لنتأمل معًا في بعض هذه الاعتبارات التي تنشئ الشكر والحمد للرب في قلوب المؤمنين المتألمين.

1- إله المراحم .. يسند ويُشدد
الرب في رحمته يذخِّر معونة تكفي أن تسند المؤمن في الظرف الأليم.  في الوقت الذي تنشب التجربة مخالبها في نفسه، يتدفَّق من قلب الله الرحيم بلسان التعزيات والسلام العجيب إلى القلب الجريح، فتمتزج حينئذٍ الصلوات والدعاء بالشكر في ضوء الحقيقة التالية: إن الله عنده نوع من السلام يسمو عن إدراك البشر، يمكنه أن يحفظ القلب من الحزن المفرط، ويحفظ الفكر من الحيرة والشك «سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في4: 7).
كم من أحباء مرّوا بمواقف عصيبة، توقّع الناس من حولهم أن التجربة ستقضي عليهم، لكنهم ثبتوا بل شكروا.  حمدوا وشهدوا لصلاح الله الذي “أرسل كلمته فشفاهم” وسندهم ورفعهم على الأذرع الأبدية.  ضمَّهم الرب لصدره الحاني، فكانت نبضات قلبه الرقيق تبثّ في قلوبهم حنانًا لا تصفه الكلمات، وسلامًا عجيبًا يفوق كل التصورات؛ ففاضت قلوبهم بالشكر العميق.  لم يكتفِ بعضهم بالشهادة الشفوية للرب بل سطروا بأقلامهم أعذب ترنيمات الحمد.  “جوزيف سكريفن”، شاب تمزَّق قلبه حزنًا بسبب الموت المفاجئ لخطيبته المحبوبة، قبل الزفاف بأيام قليلة.  رفع عينيه الدامعتين للسماء ليجد في العلا صديقًا عظيمًا يسنده ويهون عليه ثقل التجربة الأليمة، فسطر كلمات هذه الترنيمة المشهورة التي شجعت ملايين المؤمنين المجربين والتي يقول مطلعها:
يا تُرَى أيُّ صديقٍ         مثلُ فادينا الحبيبْ
يَحمِلُ الأثقالَ عَنَّا          وكذا الهَمَّ المُذيــبْ
      
2- الإله الحكيم .. يقصد ويحدِّد

سبب آخر يولِّد الشكر في قلب المؤمن المُجَرَّب هو إدراكه لهذا الحق المعزي: إن الرب هو الفخاري الماهر الحاذق، فإن وَضَعَه الرب على الدولاب، فلكي يُشكِّله مِن جديد ويُجمّله، ليُعلن مجده ومهارة يديه فيه.

لو أمكن لهذا الإناء البسيط، وهو يدور على الدولاب، أن يعلم ما يدور في فكر الفخاري العظيم، ويرى الصورة الجميلة التي حدَّدها في قصده الصالح، لَصَارَ صَبورًا، وعلم أن تعبه ليس هباءً منثورًا.

أيوب، ذلك الرجل التقي، جُرِّب بتجربةٍ من العيار الثقيل، وكل من تجرع، ولو قدرًا يسيرًا من هذه الكأس بالذات، يعرف مرارة تجربته وقسوتها.  لكن أيوب أدرك أن سبب بليته ليس في حظه العاثر، ولا الشيطان الهائج، بل إن الرب الكريم الذي سبق وأعطى، هو نفسه الذي أخذ.  بارك الرب لأنه صالح ولا يخطئ أبدًا، فاليد الكريمة التي تجود بالعطايا، تستحق التقبيل حتى لو سمحت بالبلايا.  ليس غريبًا أن يُنجز الرب مقاصده الصالحة مثل إنضاج المؤمن وتزكية إيمانه وتقوية شهادته من خلال الأتعاب والآلام (يع1: 2-4).  الرب يمسك بزمام كل الأمور ويضع حدودًا لكمية ونوعية الآلام التي يجيز فيها كل مؤمن، وهو كالفخاري العظيم يضبط حرارة تنور التجربة ليضمن أن لا يخرج الإناء محترقًا أو معيبًا.

3- إله التعويضات .. يُعوِّض ويُزود
كثيرون من المؤمنين المجربين، حين تلمع أمام عيونهم تعويضات الإله الكريم تهون عليهم أتعابهم.  الرب في جود نعمته يذكرنا ونحن نجتاز طريق الألم الذي تكتنفه غيوم الحزن والحيرة، أنه سيُعَوِّض عن النوح بالتسبيح «عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مز30: 5).  إن طال ليل التجربة أو قصر، سيأتي الصباح، ونختبر تعويضات الله الغني.  أيًا كانت صورة التعويض، روحية أم مادية، وأيا كان توقيته حاليًا أم مستقبليًا.  وإذ نذكر في تجاربنا، التي بحسب مشيئته، أن الرب سوف يخرج من جفائها حلاوة، ومن آلامها دررًا، نشكر، وتعلو أصوات الترنيم على زفرات الأنين.  وحين تنتهي التجربة نحمده قائلين: «دَخَلْنَا فِي النَّارِ وَالْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا إِلَى الْخِصْبِ» (مز66: 12).  كما عَوَّض الرب أيوب ويوسف وراعوث وأستير وغيرهم من القديسين الذين اختبروا تعويضات الإله الكريم، وبارك آخرتهم أكثر من أولاهم، هكذا يبقى كما هو، لا يمتنع قلبه الكريم عن العطاء والجود.  مخازن الله ممتلئة بالبركات التي يُسَرّ أن يغمر بها أتقياءه الذين انتظروه بصبر وتسليم، ومجّدوه في وسط التجربة.

4- إله  الرجاء .. يُجدد ويُمجد

عندما يأخذ الرب بأبصارنا إلى مناظر المجد الأبدي، يتولد فينا الشكر العميق.  يزداد الصبر في الآلام، إذ تتضاءل آلام الزمان الحاضر في ضياء عظمة المجد العتيد أن يستعلن فينا.  صاح  أيوب صيحة الرجاء، فوق مرتفعات الألم وهو يمسك بتلسكوب الرجاء الذي استطاع به أن يرى ما لا يُرى، فهتف: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ ... إِلَى ذلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي» (أي19: 23–27).  انفتحت عيناه، فرأى أن جسده العليل ليس سوى خيمة سوف تطوى، وبعدها سيرى بعينيه وليَّه الحي الذي ارتبط به، فتوَّلد في أعماقه شوق وحنين إلى تلك الحالة المجيدة التي مست شغاف قلبه وأسرت أفكاره ومشاعره، فسكَّنت آلامه، بل جعلته ينسى الزمان والمكان، ويخرج من دائرة الألم والأحزان، ويعيش جو الأبدية وهو في قلب التجربة (يع1: 12).
سَـــأرَى سَــــــــأرَى            عِيانًا فادِي الـــوَرَى
أمــكثُ جِــــــــــوارَهُ            بلا نَحـــيـــــــــــبْ
سَأنسَى أنا أتعابي هُنا          سَأنسَى أنا آلامي هُنا
        حينَ ألقَى يسوعَ الحبيبْ  





أيمن يوسف