أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
الثقة فى صلاح الله
هناك ثلاث حقائق تُشكّل تحدّيًا في ربطها بعضها ببعض، وهي:
1. حقيقة وجود الألم والمعاناة. 
2. حقيقة قدرة الله وضبطه لكل شيء.  
3. وحقيقة أن الله صالح.


وليس من السهل - في الوقت الحاضر - الجمع بتناسق تام بين هذه الحقائق الثلاث.  والمعضلة في هذا السياق، تكمن في أن الكتاب المقدس يُقدّم لنا الحقائق الثلاث السابقة، والتي قد تبدو لأول وهلة غير منسجمة معًا، وأية محاولة لنبذ إحداها ينحرف بنا المسار، وينزلق بنا نحو هرطقة.  فهناك تناقض ظاهري بين هذه الحقائق الثلاث، بحيث إذا صح اثنان منهن تصبح الثالثة خطأ.  فإذا قلنا إن الله ضابط الكل وأنه صالح، فكيف يسمح بالألم أن يحدث؟  وإذا قلنا إنه صالح والألم موجود، فهل معنى هذا أن الله ليس ضابطًا لكل شيء؟

لكن من المؤكَّد إننا سنفهم فيما بعد؛ سنفهم قبل الدخول للحالة الأبدية، عندما يمسح الله كل دمعة من عيوننا؛ كل دمعة حفظها الله في زِقِّه، حينما كنا نجتاز في الآلام المتنوعة، وحينئذٍ سنُدرك كيف أن الله كلي الصلاح والرحمة، وسندخل الحالة الأبدية ونحن نُمجِّد الله لأجل صلاحه الدائم.  أما الآن، فإننا نحتاج إلى الإيمان لنتعرف إلى صلاح الله وعنايته بكل منا.

يطرح مَن يجتاز في الألم هذا السُّؤال: لماذا أنا بالذات؟  لماذا أنا مضروب ومُصاب من الله؟  ماذا فعلت؟  ماذا فعلت لله؟  هل الألم يعني عقابًا إلهيًّا؟  وستظل هذه التساؤلات حائرةً في ألباب الكثيرين؛ فإن الألم المُتفشّي مِن حولنا، يبدو أنه يصرخ ضد حقيقة وجود إله، أو على الأقل ضد أن يكون هذا الإله صالح وقدير.  وهذا ما عبر عنه أحد الفلاسفة بقوله:

“إما أن الله يريد أن يمحو الألم ولا يستطيع، أو أنه يستطيع ولا يريد؛ أو أنه يستطيع ويريد.  فإن كان يريد ولا يستطيع فهو عاجز؛ ولو كان يستطيع ولا يريد فهو غير صالح؛ وإن كان يستطيع ويريد، فما تفسير وجود الألم والمعاناة في العالم؟!”
إن صلاح الله لا يعني سلبيًا فقط أن الله لا يعمل الشر والخطأ (حب1: 12، 13)، ولكنه أكثر من ذلك، فهو، إيجابيًا، يعني أنه يصنع كل شيء حسنًا، في التوقيت والإتقان، وهذا ما نراه بوضوح في الخليقة؛ فالله يعلن عن صلاحه المطلق في خليقته: «وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا» (تك1: 31).  فقد خلقها ليُظهر صلاحه ورحمته، فهو صنع كل شيء لخير مخلوقاته وفرحها (مز104: 10-30)، وهذا قبل كارثة دخول الشيطان والخطية إلى المشهد (تك3)، والتي بعدها مباشرة تغيَّر المشهد بجملته، فنرى كثير من الألم والبكاء للبشر، بل وجاءت لعنة الخليقة، التي تئن وتتمخض حتى الآن تحت العبودية (رو8: 22).  ومع كآبة المشهد، نرى أن الله قرَّر أن يسمح بهذا الشر أن يحدث، مُستخدمًا إياه وقد وصل إلي الذروة، لكي يُحوّله إلى خير، وهذا قمة الصلاح أن يتم تحويل الألم إلي خير وبركة، وهذه عظمة الله التي لا يُباريه فيها مخلوق كيفما كان، ليُظهر بصورة أعظم صلاحه، ألا وهي قدرته على تحويل الشر لخير.  وهذا ما نراه بكل وضوح في مشهد الصليب، ففي الصليب نرى ذروة الألم، وفيه أيضًا نرى قمة الصلاح.  فالله يسمح بالألم أن يحدث ليستخدمه لإتمام مشيئته وخطته، حتى يتسنى أن يكون لدينا أعظم سبب نُسبحه لأجله.

يعمل الإنسان الشر، ويقصد به أن يُنتج الشر؛ وعادة يكون مصاحبًا شر الإنسان، المعاناة والألم.  ولكن الله يدير عمل الإنسان الشرير إلى شيء صالح حسب قصد مشيئته!  ولولا هذا لَما سمح الله للشر بالدخول.  فالله يسمح بالألم، لكنه قضى أن لا يفلت زمام ومقدار وتوقيت الألم من يده.

دعنا نرى صلاح الله في قصة يوسف.  فيوسف لم يرَ فقط في ما فعله إخوته معه أن الله حوله للخير: «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا» (تك50: 20)، ولكنه ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ رأى أن الله كان مهيمنًا على أخطاء إخوته وسمح بها لقصد عظيم عنده، بقوله: «فَقَدْ أَرْسَلَنِي اللهُ قُدَّامَكُمْ لِيَجْعَلَ لَكُمْ بَقِيَّةً فِي الأَرْضِ وَلِيَسْتَبْقِيَ لَكُمْ نَجَاةً عَظِيمَةً.  فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ» (تك45: 7، 8).

فعلى الرغم من أن الألم حقيقة موجودة وواقعة في عالمنا، وليس الألم حقيقة فقط، بل نكاد نؤكّد على أنه جزءٌ لا يمكن فصله من الخطة الإلهية، لإظهار صلاح الله في النهاية!  فتخيل معي يوسف بدون سني الألم، والرفاق الثلاثة بدون الأتون، ودانيآل لم ينزل إلى الجب!  إذًا، لما كان عندنا هؤلاء الأبطال في الإيمان، الذين جاهروا بصلاح الله رغم الأخطار التي كانت تكتنفهم.  ربما لم تكن لديهم آنذاك إجابات وافية أو فهمًا كاملاً لأسباب وقوع الألم؛ ولكن هنا يأتي دور الإيمان.  وكما يقول “دايف إيرلي”:
“الإيمان هو الثقة في الله في وسط الألم، والثقة فيه بالرغم من الألم، والثقة فيه ليس فقط في الوقت الذي نرى فيه تدخّله لصالحنا، ولكن حين لا نرى فيه أي مؤشر للنجاة من التجربة”.

يا لعظم صلاح الله ورحمته اللانهائية!  ولنلاحظ أن كل سفر المزامير يربط دائمًا صلاح الله بالرحمة (مز100: 5؛ 106: 1؛ 107: 1؛ 118: 1، 29؛ 136: 1).  إن صلاح الله ورحمته صنوان لا يفترقان، فإن تذكّر المراحم في الماضي والتأكد من استمرارية عون الله في الحاضر، يبعثان فينا روح التسبيح والشكر.  إننا نختبر يوميًا حضور الله وصلاحه الدائم حتى في اللحظات التي يبدو فيها كأنه غائب تمامًا.  إن الثقة في صلاح الله لا تقودنا إلى عدم الألم، وإنما تقودنا إلى التمتع بالحضرة الإلهية وسط الآلام، فنرتفع فوق الألم، وهكذا نتحول من التضرع إلى الرجاء، ومن التوسل إلى اليقين، ومن الإيمان إلى المعاينة، ومن الرثاء إلى الشكر والحمد لله.  فإننا إذ ننعم بالاستجابة الإلهية يمتلئ القلب شكرًا وتسبيحًا.
هذه الثقة في صلاح الله، لا تنزع الألم من حياتنا بل ترفعنا فوق الألم، فنصير كمَن يسير مع الرب على المياه، نتخطى الألم ولا ننشغل به، بل بعريسنا السماوي المرافق لنا.  وخلال سيرنا معه فوق تيارات الألم ندخل إلى عذوبة الحوار معه - تبارك اسمه - والتمتع بحلاوة صلاحه، إذ يقول المرنم: «ما أَعْظَمَ جُودَكَ الَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ، وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ تُجَاهَ بَنِي الْبَشَرِ!» (مز31: 19).

“الله صالح”، حقيقة واقعية في حياتنا على الأرض.  والمرنم يؤكّد هذه الحقيقة فيقول: «اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا.  لِذلِكَ لاَ نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ الأَرْضُ، وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ» (مز46: 1، 2).  ولو تأمّلنا في كلمات بني قورح سنكتشف حجم المتاعب والمآسي التي كانوا يواجهونها آنذاك.  إنهم يقاربون نقطة الصفر في حياتهم، إلا أنهم يؤكِّدون حقيقة وجود الله.  هناك غموض مقدس في المعاناة، لأنها تُخرج الله للعيان في وسط الألم.  فقد يبدو في كثير من الأحوال أننا لا نمتلك تفسيرًا لسبب حدوث المآسي والضيقات، لكننا نتمسك بوعد الله الصادق أنه سيكون موجودًا في وسط الضيقات.  الله حاضر وهو إله صالح.

رجل الله “ستافورد” ماتت بناته الأربع في رحلة بحرية، ونجت زوجته فقط مع الابنة الخامسة، وعند وصولها إلى إنكلترا، أبرقت إلى زوجها تُعلمه بأنها الناجية الوحيدة من أفراد الأسرة.  سافر “ستافورد” في الحال إلى إنكلترا ليتبع زوجته وابنته الخامسة، وفي الباخرة أعلمه كابتن الباخرة بأن ابنته الخامسة اقتربت من فرن الفحم الحجري في باطن الباخرة، فاحترقت ولم يستطع أحد إنقاذها.  هنا وصل ستافورد إلى نقطة الصفر في حياته، ولكنه كتب ترنيمته الشهيرة التي تعلن ثقته في صلاح الله، والتي تُرجمت إلى معظم لغات العالم وهي:

   إنَّ جُودَ اللهِ يدعو للسُّــــــــــرورْ       زمَـنَ الخير وفي وَقتِ الشُّرورْ
فمتى أمست رحى البلوى تدورْ      بَركاتِ الـــربِّ عدِّدْ شاكِـــــرًا

     
إن قضية الألم والشر لهي قضية عسرة الفهم والإدراك، فهي درب محفوف بالغموض وأي انحراف يؤدّي بنا إلى الانزلاق، ولكن صلاح الله يمكن الوثوق به والاتكال عليه، حتى عندما لا ندرك أسباب الآلام التي نختبرها.  وأصحاح المحبة المشهور، ينتهي بكلمات تستحق أن تُلاحظ: «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ.  الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (1كو13: 12).  
ليتنا جميعًا نتعلم كيف نثق في صلاح الله، في وسط الألم والتجارب!

مسعد رزيق