أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
الآلام المقدسة
«فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ.  وَلَكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ، فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ اللهَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ» (1بط4: 15، 16)

كتب الرسول بطرس- الشيخ والشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد - إلى إخوته المُشتَّتين والمُتغرِّبين والمُتألمين، نتيجة لتبعيتهم للمسيح، لتثبيتهم؛ واضعًا أمام أعينهم معونات الله الموهوبة لهم، ليُواصلوا الجهاد، وأيضًا مُستعرضًا أمام أعينهم أنواعًا متعددة من الآلام الموهوبة لهم كنتيجة حتمية لتبعيتهم للمسيح.  ومن ضمن ما استعرضه أمامهم، هذا النوع المُرّ الحُلو الذي هو “التألم كمسيحي”، وكما كتب الرسول بولس للفيلبيّين قائلاً: «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في1: 29).

لماذا يُسمى المؤمن بالمسيحي؟


جاءت كلمة «مسيحي» في الكتاب المقدس ثلاث مرات (أع11: 26؛ 26: 28؛ 1بط4: 16).  وفي هذه المرات الثلاث لم تُستخدم لتصف شكلاً ظاهريًا للانتماء للمسيح مثل التسمي بأسماء مسيحية، أو الذهاب إلى دور عبادة مسيحية، أو الاحتفال بأيام وبأعياد لها طابع مسيحي.  وإنما جاءت الكلمة لتصف صنفًا من البشر، في جنسهم وأصلهم وصنف حياتهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم، صاروا مثل المسيح.  فليس المسيحي هو مَن وُلد في دائرة المسيحية، وإنما المسيحي هو من امتلك حياة المسيح؛ الحياة الأبدية.

لماذا يتألم المسيحي؟

لأن المسيحي كائن سماوي يعيش على الأرض

تُعلّمنا كلمة الله أن المسيح الذي مات وقام، قد صار بعد قيامته رأسًا لجنس جديد.  فحَبَّة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت قد أتت بالثمر الكثير (يو12: 24).  ولقد كان هذا الثمر الكثير من ذات صنف وشبه وخصائص ونوعية حياة حبة الحنطة، الذي هو المسيح المُمات والمُقام من بين الأموات (تك1: 11).  فامتلاك المؤمن للحياة الجديدة قد أتْحَده بالمسيح، وفصله عن العالم.  والنتيجة الطبيعية لذلك هي شعور المؤمن بالغربة في العالم، فلم يَعُد العالم يُبهجه، ولم يعُد بريق العالم يخطف عينيه، ولم تعُد مبادئ العالم تحكم تصرفاته، ولم تعُد آباره تروي عطش المؤمن الذي يجوع ويعطش دومًا إلى البر؛ بل إن العالم كله، الموضوع في الشرير، أصبح غابة من الشوك تُحيط بسوسنة الرب في أودية الأرض (نش2: 2).  فكم من الألم الذي يتجرعه المؤمن في كل يوم نتيجة سكناه في بيئة ليست بيئته! 

حياة المسيحي من صنف حياة المسيح
من الناحية الأخرى تنفتح طاقات غضب العالم وكراهيته لتنصب على رؤوس المؤمنين، لا لكونهم قتلة أو خاطفين أو مُغتصبين، أو فاعلي شر، وإنما لأنهم تابعون للمسيح، ويحملون نفس حياته وملامحه وصفاته الأدبية (مت10: 22).  
فإذا عرفنا لماذا أبغض العالم المسيح، يسهل علينا أن نعرف لماذا يبغض العالم المسيحي.  فيقول الرب - تبارك اسمه - عن سبب بغضة العالم له: «وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً.  لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ.  وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ» (يو3: 19-21). 

فكما كان المسيح، بنوره وبره وتقواه، كاشفًا وفاضحًا لظلمة هذا العالم ولفساده، حتى إنهم أسلموه للصليب حسدًا، بالرغم من أنهم لم يجدوا فيه خطية تستوجب الموت؛ هكذا كل مسيحي امتلك حياة الله، هو بحياته الجديدة وعمل الروح القدس فيه يسلك كما سلك ذاك (1يو2: 6)، وبالتالي يفضح فساد أهل العالم وفجوره، حتى إن العالم يستغرب أن المؤمن لا يركض معه إلى فيض الخلاعة (1بط 4: 4).  ولكن العالم يتجاوز حد الاستغراب إلى حد الكراهية والسباب، بل قد يصل إلى حد القتل بعد العذاب، وهذا هو مستقبل مَن يمتلك حياة المسيح، ويدخل في شركة معه ويسير خلفه.  وكلما كان المؤمن أكثر قربًا من الرب في الشركة، وكلما صار أكثر شبهًا بالرب عمليًا، زادت بغضة العالم له، وزادت آلامه كمسيحي مِن يد العالم.  فكراهية العالم للمؤمن، وتألم المؤمن كمسيحي من العالم، يتناسب تناسبًا طرديًا مع شركتنا بالرب والتصاقنا به. 

معونات روح المجد للمسيحي في احتمال الألم


على أن الرب وعد بمساندة ودعم فوري لكل مسيحي يتألم أو يُعيَّر باسم المسيح.  وهذا الدعم لا يأتي من الأرض، سواء كان مِن حكام أو دساتير أو قوانين وضعية.  فلقد ذكرنا آنفًا أن العالم بكل أنظمته صار عدوًا للمسيحي، كما كان عدوًا للمسيح.  لكن هذه المساندة وهذا الدعم يأتي من فوق؛ من المجد «لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ» - الروح الآتي من المجد؛ عربون المجد الآتي - «يَحِلُّ عَلَيْكُمْ»؛ على مَن يتألم كمسيحي (1بط 4: 14).

يا للمجد الذي كان يُغلِّف المشهد ويلمع على وجه استفانوس وهو يُرجم كمسيحي لأجل اسم المسيح!  ويا للمجد الذي أحاط بصفوف الشهداء - عبر العصور - وهم في طريقهم للسيف والقتل كمسيحيين لأجل اسم المسيح، فجعلهم يُرنمون ويتهللون، وتصاعدت نغمات ترنيماتهم مع إيقاعات أصوات السيوف وزئير الأسود!

مكافآت المسيحي المتألم


إن الكتاب الذي كشف لنا ملامح طريق الألم ولم يُخفِهِ عنا، كشف أيضًا نهاية الطريق ودخولنا إلى المجد.  فها الرسول بولس يتغنى قائلاً: «فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رو8: 18).
وسيأتي يومٌ، وذا قريب، عندما ينتهي المدمع وشقاء الطريق، عندما ينتهي بنا الطريق الضيق إلى اتساعٍ ورحبٍ لا حَصْرَ فِيهِ، عندما يستقبلنا الرب نفسه في الهواء مرحبًا ومطيبًا قائلاً:
حملوا الصليب وما استحوا بي في البشر
    
    بل ما ابتغوا حظًا سوى اسمي المُحتقر

                          فليجلسوا معي على عرش الظفر
    
    وليُلبسوا أكاليل مجدِ قد بـهـر

                       وليشبعوا من نعمة بيميني

عياد ظريف