أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
حكمة الله فى الألم
تظهر حكمة الله في الخليقة، التي عندما نتأملها نهتف مع المرنم: «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ» (مز104: 24).  وتظهر كذلك في خلق الإنسان بصفة خاصة، فيهتف كل منا: «أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا.  عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا» (مز139: 14).  وظهرت حكمة الله في الصليب لخلاص البشرية ونجاتها وحياتها.  ومع أن الإنسان لم يقنع بهذه الطريقة، فصارت الكرازة بالصليب «لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ (الأمم) جَهَالَةً!» (1كو1: 23)، ولكن لا يوجد خلاص بدون الصليب!  (اقرأ أيضًا 1كو2: 6-9).

لكننا نستطيع أيضًا أن نرى حكمة الله من خلال الألم، فالله مُهذِّبٌ ومُربيٌّ ومُعلِّمٌ ومُؤدِّبٌ حكيم، فهو «اَلإِلَهُ الْحَكِيمُ الْوَحِيدُ» (يه25)، مصدر كل حكمة، وحكمتنا نحن هي فقط ما نستقيه منه هو، نبع الحكمة.  وهو يُعلِّمنا ويُهذبنا ويُصلح من شأننا.  ولكي يفعل هذا، لا بد من الألم.  وإذا كان من السهل إدراك حكمة الله في الخليقة وفي الصليب، ولو جُزئيًا، ولكن التحقق من حكمة الله في الألم أمرٌ صعب، يرفضه المنطق البشري، لأننا ببساطة لا نريد أن نتألم، لأن الألم شيءٌ صعب: فالاضطهاد صعب، والعبودية والسجن أمرٌ قاس، وأرض السبي والمذلة والبعد عن الأهل والأصدقاء لا يُحتمل، وأتون النار المُحمّى سبعة أضعاف ما أرهبه، وجُب الأسود مرعب، وفقد الأحباء يكسر القلب، والمرض مُذل (تك39: 1، 20؛ دا 1: 3، 6؛ 3: 19، 20؛ 6: 16؛ يو11: 33؛ 1تي5: 23).

والله في حكمته يرى أن هذه هيّ الأفضل لنا، وقد ثبت صحة وصدق هذا تمامًا وعلى طول الخط: «فَتَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَصْنَعْ بِلاَ سَبَبٍ كُلَّ مَا صَنَعْتُهُ فِيهَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ» (حز14: 23)، فهل نُسلِّم له؟!
وحتى، إن كنت أتألم نتيجة أخطائي «كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ» (1بط4: 15)، فالله يتعامل معي كالآب الحكيم، فأنا بخطئي لم أفقد بنويتي بل ما زلت ابنًا محبوبًا.  وشروري لن تُفقد الله حكمته، فقد نفقد نحن صوابنا في تصرفاتنا، ولكن حاشا لله أن يتخلى عن حكمته في التعامل معنا.
أَمْ لَيْسَتِ الطَّبِيعَةُ نَفْسُهَا تُعَلِّمُكُمْ؟!

النبات يشتد عوده ويقوى ساقه عندما يتعرض للرياح والعواصف الجوية؛ والثمار لا تنضج بدون الشمس والرياح؛ والنسور الصغيرة لا يمكن أن تقوى أجنحتها وتتعلم الطيران إلا إذا اهتزت أعشاشها وتركت أوكارها؛ والله في حكمته السامية إذا حرك العش فإن أذرعه الأبدية تحيط بنا، من تحتنا ومن حولنا، لكي نتقوّى ونُحلق في أجواء السماويات.

لا للحكمة البشرية
من الخطأ أن أحاول استخدام حكمتي الخاصة مع حكمة الله لكي أنجو من الألم ومخاوفه، فبعد أن صلى يعقوب وطلب من الرب أن يُنجيه من يد عيسو (تك32: 9-12)، نراه قد استعمل حكمته البشرية بدلاً من أن ينتظر الرب ويعتمد عليه تمامًا، مما جلب عليه خسارة أدبية تمثلت في سجوده أمام عيسو سبع مرات، مع أنه سبق وقيل عنه «كَبِيرٌ (عيسو) يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ (يعقوب)» (تك25: 23؛ 27: 37)، وأيضًا خسارة مادية تمثلت في الهدية الباهظة الثمن التي قدمها لعيسو بدافع الخوف، قائلاً: «أَسْتَعْطِفُ وَجْهَهُ بِالْهَدِيَّةِ السَّائِرَةِ أَمَامِي ... عَسَى أَنْ يَرْفَعَ وَجْهِي» (تك32: 13-21؛ 33: 3).  ولكي لا يأتي الألم بنتيجة عكسية فإن حكمة الله تتولى هذا.

وتتجلى حكمة الله في الألم في أمور كثيرة منها:
1- حكمة الله في اختيار الشخص وتحديد نوعية ومقدار الألم
أحيانًا نسمع هذا التعبير لماذا أنا؟ «صَارَ كُلُّ هَذَا عَلَيَّ!».  ثق تمامًا أنك أنت الشخص المناسب لهذا النوع من الألم، وإلا فمن تختار ليكون بديلاً عنك، وأنت تكون بديلاً له في الألم؟!  مع ملاحظة أننا لا نرى كل جوانب الألم في الآخرين، فمن أعْتَقِد أنه لا يواجه آلامًا، قد تكون آلامه أكثر كثيرًا مني!  فلا يوجد مؤمن واحد بلا ألم «تَأْدِيبٍ قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ» (عب12: 8).
هل كان ممكنًا أن يكون لوط بديلاً لإبراهيم، أو آخر بديلاً ليوسف أو لأيوب، ومن يا ترى كان ممكنًا أن يكون بديلاً لبولس في شوكته، أو بديلاً لتيموثاوس في أمراضه الكثيرة المستمرة؟!  تأمل يا صديقي في النتائج: فيض من البركات الوفيرة!  فاقنع بما منحك الرب من ألم، وانظر إلى طاقات ومنافذ الأمل الكثيرة من حولك، من نعمة ترافقك وتكفيك، وعلاج تتعاطاه ليُخفِّف من آلامك، وقديسون يكتنفونك، والأذرع الأبدية تحملك وتحوطك من كل ناحية.

2- حكمة الله في تحديد توقيت الألم، وتوقيت تدخله في الألم
لكي يحقِّق الله غرضه من الألم، فهو يؤهِّلنا قبل أن يُدخلنا في الامتحان، فبعد أن هيأ الله إبراهيم والظروف المحيطة يقول الكتاب: «وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ» (تك22: 1)، هذا قبل التجربة؛ وفي أثناء التجربة تجلّت حكمة الله في توقيت تدخله: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا» (تك22: 12)، فلو أن الله أمر إبراهيم قبل أن يمد يده، لما حُسب إبراهيم أهلاً لجميع البركات التي نتجت عن إيمانه: «مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَعَلْتَ هَذَا الأَمْرَ، وَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً» (تك22: 16، 17)، ولو أن أمر الرب تأخَّر دقيقة واحدة، لكان إبراهيم قد ذبح إسحاق.  ما أحكمه في توقيت تدخله!
عندما كان التلاميذ في العاصفة، أتى الرب إليهم في الهزيع الرابع، ليخرجوا بالدرس الرائع: سَجَدُوا له قائلين: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!»، لكن عندما صرخ بطرس: «يَا رَبُّ، نَجِّنِي!»، تدخَّل الرب حالاً (مت14: 25، 31، 33).  فثق عزيزي أن الله في حكمته له توقيتاته الخاصة ليؤتي الألم الهدف المرجو منه، «أَنَا الرَّبُّ فِي وَقْتِهِ أُسْرِعُ بِهِ» (إش60: 22).  بل الأعجب من هذا أن الأمر قد يتطلب تواجده - له المجد - في مسرح التجربة قبلنا، لقد كان مع الرجال الثلاثة قبل أن يُطرحوا فعليّاً في الأتون، كان ممكنًا أن يُبطل الرب لهيب النار - الذي قتل الرجال؛ جبابرة القوة، الذين رفعوا شدرخ وميشخ وعبدنغو - بدون أن يظهر معهم، ولكن يا للحكمة!  إنه لا ينقذنا فقط بل أيضًا يُمتعنا برفقته، ويؤكد لكل مَن رأى وكل مَن يسمع الحدث، أنه هو وليس آخر الذي فعل هذا.  إن وجوده معنا في ضيقنا هو حقيقة وليست خُرافات مُصنعة!  وسد أفواه الأسود أيضًا قبل أن يُطرح دانيآل في الجب، وإلا لكانت افترسته فورًا!  «إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي» (دا6: 22).  ألا يعطينا هذا ثقة في شخصه المبارك؟!

3- حكمة الله في اختيار مدة الألم
تختلف مدة الألم من مؤمن لآخر، حسب رؤية القدير وحكمته.  نحن نستعجل توقيت الانتهاء من الأزمة، ونحاول أن نحُلُّها بطرقنا الخاصة، لكن شكرًا للرب لأنه لا يسمح لمساعينا أن تنجح في ذلك، وإلا فقدنا بركات الألم وبركات ما بعد الألم.  وسأسوق مثالاً واحدًا لذلك: يوسف، طلب من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون، ولكن الله كان له رأى آخر، فنسيّ رئيس السقاة يوسف سنتين (تك41: 1).  ولو لم ينس، وخرج يوسف من السجن حسب رغبته، يا ترى ماذا كان سيعمل، وإلى أين يذهب؟  أجيرًا باليوميّة في أرض مصر؟  أم عبدًا مرة أخرى عند شخص آخر؟  أم كان يرجع إلى بيت أبيه؟ ولكن ما أروع توقيت الرب الذي فيه خرج يوسف من السجن!  وإلى أين؟  إلى عرش مصر مباشرة، وتم فيه القول: «أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلاً» (مز105: 17)، «لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا» (تك50: 20)!
ربنا تركنا لك الكل لتختر وتأمر
وفي دهشة مُذهلة نعود وننظر
كم كنت حكيمًا قويّ اليدين وتقدر!

وإن كان من الصعب أن ندرك حكمة الله في وقت الألم، فنقف حيارى ولا نستطيع أن نفهم، فهذا أمرٌ طبيعي، فما أعلى حكمته وما أوسعها وأعمقها.  وقد يبدو طريقنا في الألم معقدًا متشابكًا، ولكن هناك فكر الله الحكيم، وعينه التي تلاحظ، فيضبط المسار ويُحوِّل الحوادث للخير.  وبعد مرور الحدث سوف نرى حكمته فيما صنع، ونعود إليه بالحمد على كل صنيعه.  ولنا في حيرتنا أن نصلّي طالبين حكمة الرب لكي نفهم قصده (يع1: 5).  لقد طلب بولس مُصليًا لأجل الشوكة، والرب وضّح له حكمته من وراء هذه الشوكة «لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ» (2كو12: 7).  فليتنا في آلامنا المتنوعة نستودع أنفسنا لمحبة الله وعنايته وحكمته وأمانته، الذي ولا بد أن يتنازل إلينا بفيض من إحسانه الإلهي.

ما أعظم حكمة الله من وراء ما نتعرض له من آلام!  الكتاب يؤكِّد لنا ذلك، وكذلك خبرتنا الروحية واختباراتنا السابقة.  ولو أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، لفضَّلنا طريق الألم الذي اختاره الرب لنا عن ما خططنا له ونحن في أوقات الألم.

فرنسيس فخرى